قال العلماء: "بسم الله الرحمن الرحيم" قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و"بسم الله الرحمن الرحيم" مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء: " إن "بسم الله الرحمن الرحيم" تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.
قال بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه "بسم الله الرحمن الرحيم" فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب). وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: "وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا" [الإسراء:46] قال معناه: إذا قلت "بسم الله الرحمن الرحيم". وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: "عليها تسعة عشر" [المدثر: 30] وهم يقولون في كل أفعالهم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة "إنا أنزلناه" [القدر: 1]. ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول). قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.
روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب "باسمك اللهم" حتى أمر أن يكتب "بسم الله" فكتبها، فلما نزلت: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" [الإسراء:110] كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فلما نزلت: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل:30] كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة "النمل".
روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.
قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال: (الأول) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك. (الثاني) أنها آية من كل سورة، وهو قول عبدالله بن المبارك. (الثالث ) قال الشافعي: هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل.
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبدالحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها). رفع هذا الحديث عبدالحميد بن جعفر، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: (نزلت علي آنفا سورة) فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم: إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر" [الكوثر: الآية]. وذكر الحديث، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.
الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: "ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه". والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد "الحمد لله رب العالمين" قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد "الرحمن الرحيم" قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد "مالك يوم الدين" قال مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال "إياك نعبد وإياك نستعين" قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). فقوله سبحانه: (قسمت الصلاة) يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: (هؤلاء لعبدي) أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن "أنعمت عليهم" آية. قال ابن بكير: قال قال مالك: "أنعمت عليهم" آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة) قال: فقرأت "الحمد لله رب العالمين" حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا "أنعمت عليهم" آية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة "أنعمت عليهم". وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها "بسم الله الرحمن الرحيم" ولم يعدوا "أنعمت عليهم".
فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل "بسم الله الرحمن الرحيم" أخرجه أبو داود - أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري: سئل الحسن عن "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا: لم تنزل "بسم الله الرحمن الرحيم" في شيء من القرآن إلا في "طس" "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل: 30]. والفيصل أن القرآن لا يثبن بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة؛ والحمد لله.
فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين؛ لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" لا في أول قراءة ولا في آخرها. ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول؛ وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط "بسم الله الرحمن الرحيم" اتباعا للسنة؛ وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً.
وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً؛ ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لابد فيها من "بسم الله الرحمن الرحيم" منهم ابن عمر، وابن شهاب؛ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين؛ وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور؛ والحمد لله.
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة؛ منهم: أبو حنيفة والثوري؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير؛ وهو قول الحكم وحماد؛ وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك؛ حكاه أبو عمر بن عبدالبر في (الاستذكار). واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم سمعنا قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم". وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روي عن سعيد بن جبير قال: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" [الإسراء:110]. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.